انطفأت أنوار العالم!
منذ فترة قابلت صديقي المغرم بالسينما فوجدته مكتئبا..الحزن يغمر روحه ويطفو علي وجهه..
سألته عن السبب فأخبرني أنه شاهدا فيلما أمريكيا مأخوذ عن قصة حقيقية يتحدث عن تجارة البشر..وبدا يحكي لي قصة فيلم “إيدن” Eden تلك الفتاة الأمريكية من أصل كوري ذات التسعة عشر عاما..والتي اختطفت وأجبرت على ممارسة البغاء عامين وأجبرت على قتل صديقتها التي رفضت “العبودية الجنسية”….ثم هربت وروت عما يدور من فظائع ورعب في ذلك العالم السفلي للإنسانية .
لم يكتف صديقي بهذا بل أخذ يبحث عن جرائم الاتجار بالبشر وجرائم الاغتصاب فوجد أنه في عام ((2012)) فقط وقعت (450) ألف جريمة قتل في العالم، وان دولة متحضرة كالسويد احتلت المركز الأول أوروبيا في جرائم الاغتصاب..وأن تسعة ملايين سيدة أوروبية تعرضن لجرائم جنسية.. فصدمه أن الدولة المتقدة لا تختلف عن النامية والمتخلفة في هذه الجريمة بل إنها هناك أشد قسوة..بل إن بعض الدول الإسلامية تتهمها الأمم المتحدة بالاتجار بالبشر…
وفزع صديقي عندما عثر على دراسة صادرة عن جامعة أكسفورد توصلت أن حجم الاتجار بالبشر يحتل المرتبة الثالثة بعد السلاح والمخدرات وأنها أرباحها تقدر بـ(28) مليار دولار سنويا وأن غالبية الضحايا من الفتيات والأطفال يبلغ عددهم مليونين كل عام..وأن بعض الفتيات يوضع على رقابهن الوشم مثل الماشية…
تنهد صديقي وقال: المسافات بين الكواكب أقرب من المسافات بين قلوب الناس الآن..والدم يلطخ العالم..والجوع يجاور التخمة….إنها النهاية..إنها النهاية!!!
ثم قال: ألا تسمع أهل الأديان…الجميع يقتل باسم الرب…يسفك الدم ويزهق الروح..ثم يقف في خشوع رافعا يديه المدرجة بالدماء..يدعو السماء أن تقبل فعله!! إنهم لم يتعلموا من ابن آدم القاتل أن سفك الدم هو أول ندم في تاريخ الإنسان…
إن الشاشات ونشرات الأخبار لا تتحدث إلا عن القتل والانفجارات والجريمة..لا نسمع فيها صوتا عاليا للسلام والمحبة والتسامح..إنها تبشر دائما بعد الطمأنينة للعالم وتلك الحياة..فالرعب أصبح من عادتنا اليومية نرتشفه مع قهوة الصباح…ففي العالم (230) دولة..لها (230) جيش و(230) وزير دفاع..ومئات الجنرالات.. وآلاف الضباط.. وعشرات الآلاف من الجنود….
كل هؤلاء يتعلمون القتل ويتدربون عليه..ويتجهزون له بكل فاتك وحديث…هل ترى هناك مثلهم يدعون إلى السلام والرحمة والخير؟!..هل يمتلك الخير والتسامح مثل هذه المقدرات؟!…إنهم يتعلمون أن يقتلوا بضمير مرتاح…يقتلون الآخرين ويسمون أنفسهم بالأبطال..وتنثر الرياحين على رؤوسهم…
ثم قال لي: الإمام البخاري كان على حق عندما صنف بابا في صحيحه بَاب “لَا يَأْتِي زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ” والحسن البصري يقول”كل عام ترذلون” أي تزداد الرذائل..
ختم صديقي كلامه بالقول: إن تكُن تلكَ هي ا لدُنيا…فأينَ الآخِـرة ؟ !
لا شك أن صديقي على حق في معلوماته ..لكن تفسيرها وطريقة قراءتها تحتاج إلى مراجعة…فالعالم هو ما تراه عيناك..ومشكلة الشر قديمة فيه….وتمثل تحديا للأديان والفلسفات..بل إن وجود الشر وسفك الدماء كان توقعا من الملائكة منذ حوارهم مع الله قبل خلق الإنسان”أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”….غير أن وجود الشر والأشرار لا يفرض الاستسلام لهم ..وإنما يحتم مقاومتهم وإشعال ضوء الحقيقة في الوجود..
وقلت لصديقي..إن وجود فرعون لم يمنع من ظهور موسي… فالعدو الاستراتيجي لأكبر دولة في العالم كان طفلا سيولد من رحم الغيب..لذا شكل فرعون لمنعه جهازا أمنيا خاصا وقويا من الجنود والقابلات والبصاصين والسفاحين ……وسفك دماء الأطفال الرضع لعشرات السنين حتى لا يظهر موسى…لكن الحقيقة قهرت فرعون وسخرت منه وجعلته هو من يربي موسى..لذلك فلا تيأس..وابحث عن النور في نفسك والآخرين…
ثم قلت له إن الرؤية الدينية وما ذكره الإمام البخاري عن تزايد السوء في العالم كلام لا شك صحيح نظرا لزيادة البشر وتنوع الشر وأساليبه وفنونه..فالفساد بعدد طبائع الخلق …لكن فهمه بالطريقة التي تتحدث بها غير صحيح..فتزايد الشر وفنونه تعني أن هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المصلحين..فلو فهم “ألب أرسلان وعماد الدين زنكي نور الدين محمود صلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز والشيخ محمد عبده..”وغيرهم هذا الحديث بهذا الفهم.. لقعدوا عن الحركة وعن مقاومة الشر والآثام..حتى لا يعاندوا القدر..لكنهم رأوا أن دورهم إصلاح ما أفسد الناس…أي ترميم معالم الخير بين الناس… فالحياة لا يمكن أن تستقيم من دون معايير أخلاقية تنظمها..وهؤلاء حرروا مفهوم الخير من المفسرين المنتفعين للدين والقيم..ونثروا الخير …فلا شيء مستحيلا..ولا شيء بلا ثمن…
يا صديقي..يجب أن تدرك أن الكون هو ما تراه عيناك..فإن رأيت الشوك والدم والحنظل…فسيطير الأمل من عينيك فالعين التي تعيش في الظلام…رؤية النور تزعجها…ويجب أن تدرك أن إصلاح الناس ليس نزهة فالمخترع الكبير إديسون أجرى مئات التجارب الفاشلة قبل أن تنجح تجربته الأخيرة…وفي المجتمعات لا يكفي أن تعلن ضلالها وابتعدها عن الصواب إنما الواجب أن ترسم لها طريق العودة إلى القيم والأخلاق والفضائل…
والإنسان إذا رأى الخطايا يلعنها في الصباح ثم يألفها في المساء..وفي اليوم التالي يرتكبها…وهو ما يفرض ألا نقف حيال الأخطاء موقف اللاعنين فقط.. وإنما نتجاوزه إلى دور المصلحين…فالجريمة التي تفلت من العقاب تكرس الإثم وتمهد الأرض لارتكاب جرائم جديدة..
وقديما تخيل شاعر الهند الكبير محمد إقبال حوار بينه وبين الله عن كثرة الآثام في الكون..يقول إقبال:
قلت يا رب: إن هذا العالَم لا يُعجبني…
فقال لي: اهدمه.. وابنِ أفضل منه..
فإذا كان هذا العالم غير جدير بأن تعيش فيه..فيبقى أن تكون صاحب لبنة في إصلاحه وتغييره للأفضل ..وليس أن تتمنى أن يمنحك قنبلة نووية كي تدمره …
يجب أن تمتلك يا صديقي الأمل أولا..فبعض الأفكار قاطرات للإصلاح حتى وإن كانت بسيطة…فالشرر يشعل من كومة القش اليابس حريقا هائلا… والبوعزيزي في تونس ليس ببعيد ..وشرعة السماء “غير نفسك …تغير الآخرين…بل تغير التاريخ”
لذا لم يكن غريبا أن يأتي بعض الأنبياء في الآخرة ولا يتبعهم إلا رجل واحد وبعضهم لا يتبعه أي إنسان …فيكفي هذا النبي الذي جاء وحيدا أنه كان صوت الحق والتغيير في وقت ما…وأنه سعى أن يعبر نور الحق والخير من خلاله إلى الناس..وأن يخطو بالناس إلى تعاليم إلى السماء…
وإذا أردت التغير فلا تجعل من ذاتك سجنا ضيقا مظلما..اسمح لماء النهر المتدفق أن يقتحم مستنقع نفسك..يطهرها ويزكيها..يمنحها الطزاجة والحياة والصلاحية..افتح باطنك لشمس الحقيقة لتقضي على ما بها من جراثيم الظل…فالتغيير لا يقوم به إلا ذوو النفوس الكبيرة والهمم العالية…والمكتشفون لإنسانيتهم..فالخضر بني الجدار للقرية التي منعته الطعام والشراب..والمسيح قال”أحبو أعدائكم” ومحمد قال”اذهبوا فأنتم الطلقاء”…
أبصر نور المستقبل وسط ألم الوقع وكما يقول محمود درويش
يا دامي العينين و الكفين !
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
و لا زرد السلاسل !
نيرون مات ، ولم تمت روما …
بعينيها تقاتل !
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل ..